القائمة الرئيسية

الصفحات

 



إنّهُم يستهزئون بنا، يبيعوننا الوهمَ، ونحنُ - بلا تفكيرٍ - نستسلمُ لهم، نتلهّفُ لبضاعتهم المُزجاة، التي تفُوح بالخيال الأسودِ والقاتل. «إلى أين أنت ذاهبٌ؟» لا أعلمُ، صراحةً لا أدري، أتحسَّسُ – أنا أعمى – بيديّ طريقًا جهنميًّا، مترعًا بالحمم، حارقًا؛ إنّني أتخيّلُ ذوباني فيهِ، انقطاعَ أعضائي، وألمي.

ربّما، لم تكُنِ المشكلة يومًا مُتعلِّقةً بالإباحيّة لوحدها، بل بالأشخاص الذين يتعاطون مخلّفاتِها أيضًا، بمشاكلهم همُ أنفسهم، تلك المشاكل التي تجعلُهم يتّخذون من الإدمان على هذا القدر الهائل من الجحيم (الذي هو الإباحيّة)، يتّخذونه – رغمًا عنهم – سلُوكًا قهريًّا، يقضم من أحشائهم المُهترئة، يومًا بعد يومٍ. لماذا «الإباحيّة ليست وحدَها هي المشكلة»؟ لأنّها غير قابلةٍ للانقراض، لا هي، ولا المواقع التي تحملها. إنّها جراثيمٌ عفنةٌ تتكاثرُ دونَ وَقفةِ راحةٍ. لكنّكَ (كشخصٍ يبدو واعيا) مُنقرضٌ، وهذا أمرٌ مؤسف (للأسف)، ويدعو للشفقة (أيضًا). للعلم، حتّى بعد موتك، ستبقى الإباحيّة صامدةً.

في العالم الناطق بالعربيّة، بمفهوم العصر، الإباحيّة غير الإباحة، غير أنّ الكلمة الأولى منسوبةٌ في الحقيقة للثانية (في الإباحيّة، كلّ شيءٍ مباح، وهذا يُلخّصُ النسبَ). حسنًا، نحنُ نملك التعريف التالي: صناعةُ الإباحيّة هي عمليّة بناءِ نُصوصٍ، صور، مرئيّات (لكي لا نقول «فيديوهات») تحملُ فنًّا عميقًا، يحملُ بدوره رحلةً مجّانيّةً (في أغلب الأحيان) إلى متعةٍ خارقةٍ. إنّها - باختصارٍ - جنّة من الملذّات اللامحدودة، متنوعّةِ الثمار، أرضٌ للهيام التامّ، دون تحمّل أيّ مسؤوليّاتٍ، دونَ تضحيّاتٍ. أقصدُ، أنّ أمرَ هذه الصناعة بسيطٌ وسهلٌ، لا داعي للخروج، البحثِ عن امرأةٍ حقيقيّة (أو رجل حقيقيّ بالنسبة للإناث. هل نبحث عن شركائنا - إذا وُجدوا - أصلا؟)، يمكنك تفادي كلّ هذا الصخب، أن تجلس بكلِّ هدوءٍ، وتجد كلّ شيءٍ أمامك، ما عليك إلّا إثارة نفسك بنفسك. كشخصٍ يُمارس الجنس مع نفسه، أو مع الهواء.

 بدايةً، الإباحيّةُ وهمٌ، إنّها فانتازيا غير مفيدة. هي الأخرى، كأيِّ صناعةٍ مرئيّة، قائمة على نصٍّ مكتوب، على سيناريو إذا شئتم، يعتمد مُنتِجوها على كتّاب (طموحين) لنسجِ قصصٍ عالية التشويق، بناءِ خطٍّ قَصصيٍّ مبهرٍ، يبدأ بالتلاحم، وينتهي به. ما يُمكن رؤيته في كلّ تلك المقاطع هو تمثيلٌ (لا يكون احترافيًّا دائما) يُجسِّد نصّ السيناريو بحذافيره: كلّ الكلمات، الجمل، وحتّى الوضعيّات المُمارَسة، معروفة من قبلُ ومُخطَّطةٌ للوقوع. دعوني أعلِّق: رغم أنّنا نجدُ كتّاب هذه الصناعة طموحين، غير أنّهم للأسف، يدورون في حلقةٍ واحدةٍ، ويكتبون ذات القصص الهابطة، بذات الأفكار.

من ناحيةٍ أخرى، وبالحديث هذه المرّة عن الممثلّين، فإنّ هؤلاء الآخرين يخضعون لكثيرٍ من التغييرات. يشترك الذكور والإناث في الخضوع لعلميّات جراحيّة متباينة، على أعضائهم الجنسيّة، للخروج بنتائجَ تُبهر المشاهد، وتزيد من غُلواء متعتهِ المشتعلة بنار الرغبة. تنفرد الإناث (ليس دائمًا، قد يُشاركهنّ الذكور) بتجميل وجوههنّ بجميع المساحيق الممكنة، التي قد تُغيّر حقيقة أشكالهنّ. بالإضافة لهذا، يلجأ الكثير من الممثّلين، قبل عمليّة التصوير، إلى تعاطي المنشّطات الجنسيّة والمخدِّرات، للقيام بأفعالٍ خارقة من جهةٍ، ومن أجل نسيان الهموم، تقليل الألم (النفسيّ والجسديّ) من جهةٍ أخرى. نتائج التصوير المعدَّلة تُعطي فيما بعدُ انطباعًا كاذبا لدى المتفرِّج (مهما كان جنسه): «يجب أن يكون المرء جميلا جمال ملائكة الإغريق، قويّا قوّة الرومان في الأفلام الأمريكيّة، وقادرا قدرة جنسيّة عجيبة، حتّى يحظى بعلاقةٍ جنسيّة مُرضية». حسنًا، يبدو أنّ هذا كذبٌ، لكنّه أكثرَ متعةً من الحقيقة.

 الطامّة الكبرى هي أنّ المتعة المحصّلة من مثل هذه المقاطع زائلة، أغلب مشاهدي الإباحيّة، ينطلقون في رحلة إدمانهم بمرئيّات رومانسيّة، يُركّزون فيها على جمال الأوجه، قوّة العضلات، شاعريّة الكلمات (بالمناسبة، هذه المقاطع قليلة الوجود)، ثمّ ينتهون بمشاهدة كلِّ ما هو شاذٌّ عنّا وممتعٌ بالنسبة لقردة البونوبو. إنّها عمليّة إدمانٍ تصاعديّة يخضعُ لها العقل، بداية الجحيم الخالص.

الجنسُ الحقيقيّ يختلفُ عن الإباحيّة، بما بيّنا فيما سبق، إضافة إلى التالي: يُجبِر مشاهدُ مثل هذه الصناعة نفسَهُ على شيءٍ غريبٍ، وهو مشاهدة أعضاء أشخاصٍ آخرين من نفس جنسه، لا يميل إليهم بالضرورة، وهذا وضعٌ غير محبوب على الإطلاق. ألا يُمكن قياس الضرر النفسيّ على هذا المشاهد؟ إنّه يتفرّج على أشخاصٍ يُمارسون الجنس، بدل أن يُمارسه هو نفسه. أثناء عمليّة الجنس، يُمارس الطرفان الحبَّ (بالتعبير الغربيِّ) ولا يُدقِّق أحدهما في أعضاء الطرف الآخر لمدَّةٍ طويلةٍ، ما تُقدّمه مرئيّات الإباحيّة هو تشريحٌ زائدٌ، حصصُ جراحةٍ عمليّةٍ، دون استخدام أيِّ مِبضعٍ (ربّما باستخدام أدواتٍ أخرى، ألعابٍ أقصِدُ).

يُعتبر الشيء القادرُ عا لى تغيير أفكارك خطيرًا. للإباحيّة قدرةٌ هائلة على تغيير الاعتقادات والمبادئ. مع مُرور الزمن، سوف يتقبّل مُشاهدُها جنسًا شاذّا، وضعياتٍ خطيرة وغير آمنة، شتمًا قذرا، سيُغمضُ عينيه عن كلِّ ما هو غير طبيعيّ ومُنذِرٍ، لأنّه ألف الوضع وعهده. ثمّ إنّها تُبدّل فكره حول المرأة ودورها، وهذه نقطةٌ قاتلة: الكائن الأنثويّ أنبوبٌ للمتعة، قادرٌ على ممارسة الجنس في أيِّ وقتٍ، في كلِّ مكانٍ، بأيِّ طريقةٍ.

 قلتُ سابقًا بأنّ حَبكة القصص المكتوبة فاشلة، من ناحيةٍ أدبيّة نعم، لكنّها ناجحة في تمرير الأفكار، ولو بأسلوب رديءٍ، لكنّه مؤثّر، ربّما بسبب عامل التَّكرار (تَكرار نفس الأفكار يُرسّخها في ذاكرة المشاهد، لتصبح فيما بعدُ اعتقاداتٍ). أقول الآن: في تلك المقاطع، الطلّاب الجامعيّون كُسالى، فوضويّون، لا يستطيعون التحكّم في رغباتهم، همُّهم الوحيد في الحياة هو الاستمناء، أو ممارسة الجنس مع زوجات آبائهم، وخادمات بيوتهم. وعلى ذكر زوجات الأب، فإنّ ممارسة الجنس (هنالك) مع الأقارب مباحةٌ (اسمُها إباحيّة، تذكَّرْ)، وعلى المُلاحِظ أن يرى أنَّهُ لا يُوجد ذكرٌ للفظ الزواج، في عناوين هذه المرئيّات، إلّا بإضافة فكرتين: الجنس الغريب مع الزوجة، أو الخيانة الزوجيّة (مع أخت الزوجة خاصّة، إنّها فضيحةٌ جيّدة يجب أن تُستهدف من صحافة بلداننا الحبيبة).

لديّ مشاكلٌ أخرى مع صناعة الإباحيّة، في الحقيقة لهذه الأخيرة مشاكلٌ مع العلم نفسه: مثل ما تُسبّبه من تذبذبٍ في نسبة إفراز الدوبامين (لأنّ المدمن اعتمد على كمّيّات هائلة من هذا الهرمون أثناء غرقه في مدينة العجب، وهذا ما أدّى به لمرحلة الإدمان. ثمّ ماذا؟)، أو ما تُحقِّقه من ضُعفِ انتصابٍ بالنسبة للرجال (أليس من المحرج أن لا يُحدِث المرء انتصابا مع شريكته في الحقيقة، لأنّهُ اعتاد أن يفعلَ ذلك مع حبيباته الوهميّات؟). ثمّ هنالك مشكلةٌ أخرى: هل مشاهدةُ الإباحيّة عبارةٌ عن خيانةٍ؟ إنّهُ سؤال مباغِتٌ؛ ربّما الإجابة عنه هي: نعم.

قد تخدعُنا الطبيعة الماكرة، وتُزيِّن لنا الرغبة (الشهوة) كوُقوعٍ في هُوّة الحبّ، لكن من الغبيّ أن تُغيِّب هذه الرغبة عنّا عقولنا، لتُوقعنا في فانتازيا الأبدان. قد لا يُوجد حلولٌ في هذا النصّ، ولا دعوة إصلاحٍ دينيّة بكلامٍ معسُول، يُطبطب على النفس المُذنِبة. الإباحيّة (كان يجبُ عليّ إعادة هذه الكلمة مرّاتٍ كثيرة) سمحتْ بتعرية أبدان الناس، وعرضها للغرائز بأسلوبٍ مغرٍ، وهذا النصّ سمح بترعيتها هي نفسها، وعرضها للعقول (لا أعرف إن كان الأسلوب مغريًا أم لا). في الأخير، أنت – عزيزي القارئ -  من تبحث عن هذه الحلول، نحنُ للأسف جهلاءٌ، فيما يتعلَّقُ بشيءٍ اسمُهُ: «الحلُول». تذكّر من فضلكَ: إنّها حياةٌ تعيسةٌ، تلك التي تُعاش بين براثين القذارة.

أنت الان في اول موضوع
هل اعجبك الموضوع :
author-img
مُجرّدُ شخصٍ كانَ، ولا زال يُكافِح من أجلِ أن يكون.

تعليقات