إلى (صلاَح).
بل إلى (ص....) ويبقى الاسم الحقيقيّ أكثر
استحقاقًا لهذا الإهداء.
أمّا قبلُ:
حبّذتُ نشر هذه الخواطر والمذكّرات لكُم - التّي
كُتِبت أغلبها بخطٍّ لا يُقرأ في مذكّرة صغيرة - علّها تُؤنِس بعض القُلوب وترفع
عنها الهُموم، فتجدون بعض قطرات السّلوى والتّعزية النّدية التّي أفرغتها من كأس
الحُبِّ العُذريّ.
أمّا بعدُ:
اليوم الأوّل:
تتلاقى الأعينُ المُترعة بالعَبَرات،
وتتّحدُ القُلوب المذبُوحة بسكاكين الهُيام، تنسجم الأرواح المَكسورة بسقطات
الخيانات، لتنسج بخُيوط الكلمات ثِياب الحبّ الصّامت، وبحبال المعاني شِباك لُغة
العُيون.
***
أكادُ لا أكتبُ حرفاً، لأنّ المشاعرَ كلَّها
لا تُحوّلُ إلى سُطورٍ، وكيف لنا أن نسكُب أحاديث النّفس في قالب بلاغيٍّ، ونحنُ
إمّا أنّنا لا نأتي على البلاغة، وإمّا أنّ البلاغة لا تأتي على هذه المشاعر، ولا
تجِد حوْلا ولا قُوّة لتَرجمتها.
***
من أوّل يومٍ، ومن أوّل حُضور، وبُعيد أوّل
ساعةٍ ومن ثوانٍ معدوداتٍ، عرفنا دواخل أنفسنا وأحببنا ضمائرنا وتُهنا في شوارع
شخُوصنا المُبهمة. وهاهي الأيّام تمرّ والأشهرُ تكرّ، بيْدَ أنّنا لم نتجاذب لُغة
العاديين لحظةً! لأنّ لُغة عيُوننا أكبرُ من كلّ لُغةٍ. تتلاقى المُقل مرّة واحدة
في اليوم، وهذا يكفي للبَوْح بآلاف الأحاديث التّي لا تتمّ في حِقبة من الدّهرِ.
***
هي جميلة بل أجملُ ما رأت عُيوننا، بل نجمع
من صُور الحُسن والبهاء وأفانينهما كلّ ما ثقِفْنا، ونكوّن بها هذه (صلاح).
أسميناها غير اسمها، لأنّ الصّاد الأصليّ فيها قد علا وتبختر، ويكفي وحده، فلا
داعي لنا لإلحاقه ببقيّة الحُروف.
***
(صلاح) جُمِع فيها كلّ شيئٍ، رغم أنّني لا
أعلم عنها شيئا؛ إلاّ أنّني أراها كلّ يوم. وهذا ضرب من ضُرُوب عُيوب المُحِبِّ،
فهو لا يحبّ بعقل سليم ولا قلب مستقيم، وفي هذا نقاش قد حلّله آلاف الأدباء
والشّعراء قبلي، قطّعوه وتناولوا فيه كلّ صغيرة وكبيرة، حسبُنا كلامهم، لن أزيد
البحر قطرة من فلسفتي السّاذجة.
***
ومن قال أنّ المشاعر مُتَبَادَلة؟ هي ألهمت
وسكتت، يكفي هذا. يكفي أن أتوهّم مثل ما توهّم (الرّافعيّ) بحُبّ (مَيْ) فأخرج الشّعر
في صورة النّثر، ولم يُضاهيه إنسيٌّ في هذا. (صلاح)، يا (صلاح)، وهل تُسمّى الأنثى
بِـ (صلاح)؟ لا أكترث، المهمُ أنّي أعرفك امرأة شهمة، رزينة، تتكلّم لِماما، تبحث
عن الهُدوء وتجد الرّاحة في التّحليل العميق لشخصيات المارّين عليها (وقد
عرفنا هذا من الملاحظة فقط). وإنّي – والله - أعرِفكِ من صوتك (المسمُوع صُدفة) أو
من عُيونك. فهي لُغة العُيون... التّي تُفهِم أكثر ممّا يُفهِم الحرف ذاته.
***
والعينُ تعلمُ من عينيّ محدّثها
إن كان من حِزبها أو من أعاديها
(الإمام عليّ رضي الله عنه).
وأنا... وأنا علِمتُ أنّك كلّ حزبي، ولم أرَ
فيكِ عدوّا واحدا، ولو كان سيسقط بخِنصري... لمحتكِ وطنا، رأيتكِ ملاذا، أبصرت
فيكِ ملجأً يحميني من مُعترك الحياة. قطعتِ نِياط قلبي يا (صلاح) ثمّ ربطتِ هذا
القلب النّازف بقلبكِ، بوتين الحُبِّ، فسكت عن النّزيف وأصبح يضخّ الدّم لكِ...
وحدكِ.
***
وهذه هي لُغة الأدباء والشّعراء والمجانين -
ولستُ أديبا ولا شاعرا، لكنّي على الأرجح مجنونٌ - وإنّي امرُؤ لا يخوض في
طُرقاتهم، لأنّها سُبل الموت في الحياة. سأكتفي بالشّعورِ وتَرجمة حديث العُيونِ.
***
اليوم الثّاني:
لا... لا... لن أصمت، فَلْيقُولُوا معتُوهُ
عقلٍ - وإن كان العقل قد هرب حقّا -، وليقولوا إذا مرِيضُ قلبٍ - وإنّه كذلك
مجرُوح سقيم لاغِبٌ -. من أنتِ يا (صلاح)؟ ومن أين سقطتْ أهدابُكِ عليّ فربطتْني؟ والله إنّك لرُوحٌ
لم أجد من قبلها ما يُشبهها، وإنّي لعاجز عن وصفها. لماذا تنظرين بنهمٍ، وعندما
تُواجهك نظرة تتحاشينها، وتطيرين بأجنحة كِبريائِك؟ سقطتُ في هُوّة الهُيام بكِ
وأجهل السّلّم الذّي يُوصلني للخارج، وما أنا وما الخارج؟ وما السّلّمُ؟ ففي
الخارج تتدجّى وتتكاثف دياجِير الظّلام، وبغَيابة حُفرة عشقكِ شمسٌ تنثر خيوط
الاطمئنان. إنّي ضعيفُ القلمِ، ولستُ قادِرا على الكتابة... ولا أقول أنّ هذا نصّ
قد وفّى بهاء رُوحكِ... لكنّي مُتعجّبٌ منكِ. أسألكِ من أنتِ؟ فهل تُجيبين من
فضلكِ؟ لماذا أتيتِ؟ وكيف جِئتِ؟ وما بالُ الصّاد قد طغى على اِسمكِ؟ لا أحد
يفهم... نفسي: لا أفهمُ، ولن أفهم ولكن، هل تُفهميننا أنتِ يا حضرة (صلاح)؟
آسف... لكنّني أشعرُ بألف شُعورٍ يجول أصقاع
وِجداني. أحكي للنّاس؟ وكيف هذا؟ وأنا لم أكد أُخرِجُ بنت شفة نظيفة طاهرة تُشبه
وردة الياسمين وما تُبقيه من عطر شذيّ خلفها، حتّى يُقابلني رصاص كلامهم فيقتل
كياني، وسكاكينهم فتذبح لساني، وأقدامهم الوسِخة فتدوس على ياسميني. أكتفي بي
وبقلمي وبكِ، حينما أراكِ تنخمد كلّ البراكين المُضطرمة، وتسكن فورة جميع
الأحاسيس، ولا أسمع شيئا منها ولو أرهفت سمعا، إلاّ... إلاّ أهازيج الحُبّ تنادي
وتُنادي: (صلاح)... (صلاح).
***
كلّ نظرة تعني رُمحا يسقط على قلبي، فإذا
تغلغل ألف رُمح على سُويداء الفُؤاد، هل سيبقى قلبٌ؟ أم سيكون شَغافه حارسا لهذه
الرِّماح، مُتصدّيا لها؟ لا والله، فالشّغاف قد سقط أشلاءً على الأرض، وما كِدتُ
ألمّ شمل ذاك الفُتات وأعيد تركِيبه حتّى وجدت القلب نفسه قد هوى على أرض العشق، وسقطتْ
– أخيرا - المملكة في يدكِ يا (صلاح)، لكنّنا - نحنُ شعبها - لا نكترِث، فـ «مملكتنا
مُختلّة تُحبّ مُحتلّها». أنتِ كمياه البحر المُحيطِ بمملكتنا، كلّما اغترفنا منكِ
ازددنا عطشا إليكِ.
***
أضحكُ وتضحكُ معي ضحكاتي.
وأدمعُ فتدمع معي دمْعاتي.
أموتُ فيكِ باللُّقيا، وقبلكِ بسكرات موتِ
الانتظارِ.
***
ربّما سارت عبْرة من نبع عينيّ حارّة لتحرق
خدّي، فتقع على هذا القِرطاس، في هذا المصبّ، في مصبّ قِرطاس الحبّ الذّي يرتدي
سِربال العذاب العذْبِ. دُموعنا تجري في الورق الرّقراق ناصع البياضِ، فتمحي كلمات
لُغة النّاس وتكتب حرُوف لُغة العُيون. إنّه الحُبّ الصّامت الذّي ابتُليتُ به.
حديث العُيون الذّي يمرّر بينه الحروف، ويكفيني... يكفيني استعلاءُ الصّاد.
والسّلام عليكِ.
2020/12/24
تعليقات
إرسال تعليق